مِـــــنْ إِيحـــــاءاتِ ذِكْـــرَى عَاشـــــوراء الأستاذ: عبد القادر مهاوات
نَمُرُّ في هذه الأيامِ الأُولى من شهرِ اللهِ المحرَّمِ بيومٍ فاضلٍ، فيه من الذكرياتِ ما فيه، إنه يومُ عاشوراءَ الذي يُوَافِقُ العاشرَ من هذا الشهرِ. والمتأمِّلُ فيما وَقَعَ فيه من أحداثٍ، وما شُرِعَ له من الأحكامِ، سوف يستنتجُ فوائدَ عديدةً، ويَسْتَوْحِي مَعَانِيَ جليلةً. فمِنْ بين هذه الفوائدِ والإيحاءاتِ ما يأتي ذِكْرُهُ: 1- الظلمُ له نهايةٌ، وعاقبةُ الظالمين وخيمةٌ في الدنيا قبلَ الآخرةِ، سواء كان الظلمُ سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا: فمَنْ ظَلَمَ واعتدى، أو طَغَى وتجبَّر، يُنْتَظَرُ له المآلُ السيئُ في الدنيا، والانتقامُ الإلهيُّ العاجلُ؛ شفاءً لغيظِ المظلومين، وجَعْلاً له عبرةً لغيره. وهذه الحقيقةُ ملحوظةٌ من خلال الواقعةِ الأمِّ التي لأجلها خُلِّدَتْ ذكرى عاشوراءَ، وهي هلاكُ فرعونَ وجنودِه بالإغراقِ، بعد طولِ اضطهادٍ لبني إسرائيلَ، ونجاةُ موسى ومَنْ معه منهم. قال ابنُ عباسٍ : "لما قَدِمَ النبيُّ المدينةَ وَجَدَ اليهودَ يصومون عاشوراءَ، فسُئِلُوا عن ذلك، فقالوا: "هذا اليومُ الذي أَظْهَرَ اللهُ فيه موسى على فرعونَ، ونحنُ نصومُه تعظيماً له". فقال رسولُ اللهِ : ﴿نحنُ أوْلى بموسى منكُم﴾، وأَمَرَ بصيامه"[رواه أبو داود]. ويقول اللهُ تبارك وتعالى: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾[النازعات:15-26]. وعلى هذا، فكلُّ مَنْ سَوَّلَتْ له نفسُه ظُلْمَ الآخَرِينَ، ومَرَّ بذكرى عاشوراءَ، عليه أن يقولَ لها: "كُفِّي يا أيَّتُهَا النفسُ عن الاعتداء، وإلا كانت عاقبتُك كعاقبةِ فرعونَ وأمثالِه من الظَّلَمَةِ". 2- الشكرُ الحقيقيُّ لله تعالى على نِعَمِهِ لا يكونُ بالقولِ فقط، بل لاَ بُدَّ من التعبيرِ عنه بالفعلِ أيضًا: فالذي يَمُنُّ اللهُ تعالى عليه بنعمةٍ معيَّنَةٍ -وما أكثرَ نعمَه جلَّ وعلاَ علينا-، عليه أن يَسْتَشْعِرَ قلبيًّا أنَّ هذه النعمةَ مَسُوقَةٌ من الله تعالى إليه، ثم يَحْمَدُهُ تعالى عليها لفظيًّا، ويُسَخِّرُهَا هي وسائرَ نِعَمِ اللهِ عليه فيما يُرْضِيهِ عنه سبحانه. وهذا المعنى مُقْتَبَسٌ من صنيعِ النبيِّ ، فإنه كان يصومُ يومَ عاشوراءَ -وهو فِعْلٌ-؛ تعبيرًا عن شكره لله تعالى على أن نَجَّى موسى من فرعونَ -وهذه نعمةٌ جليلةٌ؛ إذ إنَّ المسلمَ يَعْتَبِرُ انتصارَ إخوانِه في العقيدة على أعدائهم نعمةً عظيمةً-، فهو صلواتُ اللهِ عليه وسلامُه لم يَكْتَفِ في شكره بِمُجَرَّدِ استشعارِ النعمةِ قلبيًّا، والتعبيرِ عنه لفظيًّا، بل صامَ اليومَ المبارَكَ، وأَمَرَ صحابتَه الكرامَ بصيامه، ورَغَّبَ فيه. سُئِلَ ابنُ عباسٍ عن صيام يومِ عاشوراءَ فقال: "ما علمتُ أنَّ رسولَ اللهِ صامَ يومًا يطلبُ فضلَه على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر -يعني: رمضان-"[رواه مسلم]. وعن أبي قَتَادَةَ أنَّ رسولَ اللهِ سُئِلَ عن صيام يومِ عاشوراءَ فقال: ﴿يُكَفِّرُ السنةَ الماضيةَ ﴾[رواه مسلم]. وهذا المعنى المتكامِلُ للشكرِ كان حاضِرًا في سائر حياتِه ، ومِمَّا يُؤَكِّدُ ذلك حديثُ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ رسولَ اللهِ كان يقومُ من الليل حتىَّ تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فقالت له: "لِمَ تصنعُ هذا، وقد غُفِرَ لك ما تَقَدَّمَ من ذنبك وما تأخَّرَ؟". فقال: ﴿أفلاَ أحبُّ أنْ أكونَ عبدًا شكورًا﴾[رواه الشيخان]. 3- مخالفةُ اليهودِ والنصارى مطلوبةٌ شرعًا؛ على اعتبارِ أنَّ المسلمين لهم كَيَانُهُمُ الخاص: فالشخصيةُ المسلمةُ مستقلةٌ عن غيرها، تَتَأَطَّرُ بتعاليم كتابِ ربِّها وسنةِ نبيِّها ، وأبعدُ ما تكونُ عن الْأَخْذِ أو التأثُّرِ باليهود والنصارى؛ لِمَا حَدَثَ في شريعتيْهم من التحريف. ولذا حَذَّرَ النبيُّ من التقليد الأعمى لهما، لَمَّا تَنَبَّأَ بأنَّ الأمةَ سيأتي عليها زمانٌ يَضْعُفُ فيه دينُها، وتَضْمَحِلُّ فيه شخصيَّتُها، فيُصبح أفرادُها مُولَعِينَ بالأخذِ عنهما، دون تَمْيِيزٍ بين النافعِ المفيدِ الذي يجوزُ أنْ يُؤْخَذَ به، والضَّارِّ الْمُهْلِكِ الذي يَجِبُ أنْ يُطْرَحَ. قال النبيُّ : ﴿لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لسلكتمُوه. قال الصحابةُ : "يا رسولَ اللهِ اليهودَ والنصارى؟" قال: فمَنْ﴾[رواه البخاري]. والمتأمِّلُ فيما شَرَعَهُ النبيُّ من صومٍ فيما يتعلَّقُ بعاشوراء، حيث لم يَكْتِفِ بصيام يومِها وحدَه -كما كانت تفعلُ اليهودُ-، بل عَزَمَ في السَّنَةِ التي قُبِضَ فيها على أن يصومَ معه يومَ تَاسُوعَاءَ؛ إِيغَالاً في مخالفتِهم، سيُدْرِكُ المتأملُ أنه صلواتُ اللهِ عليه وسلامُه كان يريد من خلال ذلك التشريعِ أنْ يُرَسِّخَ فكرةَ استقلاليةِ الشخصيةِ المسلمةِ، وعدمِ ذَوَبَانِهَا في غيرِها من الشخصيات الكافرةِ التي لا يأتي منها -في الغالب- إلا الشَّرُّ. قال ابنُ عباسٍ : "حين صامَ رسولُ اللهِ يومَ عاشوراءَ، وأَمَرَ بصيامه، قالوا: "يا رسولَ اللهِ إنه يومٌ يُعَظِّمُهُ اليهودُ والنَّصارى". فقال رسولُ اللهِ : ﴿لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التاسعَ﴾"[رواه مسلم]. 4- ليس مِنَ الشرعِ في شيءٍ أن يُحْيِيَ المسلمُ مَآسٍ وقعتْ وانقضتْ؛ لِمَا فيها مِنْ مَحَاذِيرَ وآثارٍ سيئةٍ على الفردِ والأمةِ: ذلك أنَّ المسلمين من الشيعة يَرْبِطُونَ ذكرى عاشوراءَ بِمَقْتَلِ الحسينِ بنِ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنهما ، وهو لا شكَّ من المآسي الكبيرةِ التي حدثتْ للمسلمين في تاريخِ سلفِهم، رغمَ ما في ذلك التاريخِ من بطولاتٍ وفتوحاتٍ كثيرةٍ باهرةٍ. ومِمَّا زَادَ المأساةَ شناعةً أنَّ القتلَ كان بأَيَادٍ مسلمةٍ. وهذا الربطُ الذهنيُّ الموجودُ عند الشيعةِ، تَمْتَزِجُ به طقوسٌ فيها شَقٌّ للجُيُوبِ ولَطْمٌ للصدورِ والْخُدُودِ، وإراقةٌ لدماءِ الصغارِ والكبارِ منهم؛ تَحَسُّرًا على تلك الفاجعةِ. وهذا الصنيعُ مُخَالِفٌ للشرعِ من عِدَّةِ نَوَاحٍ منها: - إنَّ في تلك الطقوسِ وما يُصَاحِبُهُمَا من رِثَاءٍ مُبَالَغٍ فيه تَسَخُّطًا وعدمَ رِضَى بما قَدَّرَهُ اللهُ . ومعلومٌ أنَّ الإيمانَ والتسليمَ للقضاء والقدرِ من الأركانِ الستةِ التي لا تَصِحُّ العقيدةُ الإسلاميةُ إلا بها. يقول النبيُّ في حديثِ جبريلَ الطويلِ لَمَّا سألُه عن حقيقةِ الإيمانِ: ﴿أَنْ تؤمنَ بالله وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخرِ، وتؤمنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ﴾[رواه مسلم]. - إنَّ ذِكْرَى مَقْتَلِ الحسينِ سيدِ شبابِ أهلِ الجنةِ، وسِبْطِ رسولِ اللهِ وريحانتِه، رغمَ ما فيه من الأسى، إلا أنه ليس أعظمَ من حدثِ مَقْتَلِ والدِه عليٍّ ، ووفاةِ النبيِّ ذاتِه صلواتُ اللهِ عليه وسلامُه. فلِمَ تُقَامُ المآتمُ لَمَقْتَلِ الحسيْنِ، ولا تُقَامُ لمقتلِ والدِه، أو وفاةِ جدِّه ؟! - إنَّ في تلك الطقوسِ تَجْسِيدًا لِمَا حَذَّرَ منه النبيُّ مِمَّا يُمْكِنُ أن يَقَعَ في المآتم. فعنِ ابنِ مسعودٍ قال: قال رسولُ اللهِ : ﴿ليسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخدودَ، وشَقَّ الجيوبَ، ودَعَا بدعوى الجاهليةِ﴾[رواه الشيخان]. - إن تلك الطقوسَ عندما يُشَاهِدُهَا غيرُ المسلمِ يَتَقَزَّزُ منها؛ لِمَا فيها من إحداثٍ للضررِ بالأجسادِ، الأمرُ الذي يُنَفِّرُهُ من دين اللهِ تعالى. نقولُ هذا؛ لأنَّنَا في زمنِ الفضائياتِ والأنترنيتِ وتطورِ وسائلِ الاتصالِ، فمِنَ السهولةِ بمكانٍ أنْ تُذَاعَ وتُنْشَرَ تلك المشاهدَ -كما هو حادثٌ الآنَ فعلاً- على مَرْأَى مِنَ الْعَالَمِ أجمعَ ومَسْمَعٍ منه. - ما في إقامةِ تلك المآتمِ من إضاعةٍ للجهود والأموالِ والأوقاتِ، خاصةً وأنها تُقَامُ سنويًّا، ولعدةِ أيامٍ، وتتكرَّرَ في الأربعينيَّةِ ، وتُسَافِرُ أعدادٌ مُعْتَبَرَةٌ من مَوَاطِنِهَا المختلفةِ -البعيدةِ أحيانًا- لشُهُودِ تلك الطقوسِ الْمُقَامَةِ في كَرْبَلاَء. - تلك المآتمُ وما يُقَالُ فيها من حقائقَ ومُبَالَغَاتٍ ورواياتٍ مَشْكُوكٍ في صحتِها، يُعَدُّ مِمَّا يَزِيدُ في زرعِ الأحقادِ، وتوسيعِ الْهُوَّةِ بين الشيعةِ والسنةِ، وتَأْجِيجِ العداوةِ بينهما، الأمرُ الذي يُسَاهِمُ في إضعافِ المسلمين وتشتيتِ كيانِهم، ويَجْعَلُ عدوَّهم يَطمعُ فيهم. لذا فإنَّ الأصلَ في المسلمِ أنْ يَلتزمَ الهديَ النبويَّ في أمرِ عاشوراءَ، فيستحضِرُ ذكرى انتصارِ نبيِّ اللهِ موسى على فرعونَ اللَّعِينِ، ويصومُ يومَها واليومَ الذي قبلَـها، ولْيَعْلَـمْ بأنه لم يَصِحَّ عن النبيِّ في عاشوراءَ إلا فضلُ صيامِهِ . وينبغي أنْ لا يَرْبِطَ هذا الحدثَ بذكرى مَقْتَلِ الحسيْنِ ، ليس اسْتِبْسَاطًا لذلك الحدثِ الْجَلَلِ، وإنَّما للمحاذيرِ والآثارِ السلبيةِ التي تترتَّبُ على ذلك الرَّبْطُ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا. وإذا حَدَثَ وأنْ مَرَّ في دراسةٍ تاريخيةٍ فرديةٍ أو جماعيةٍ بهذه الذكرى الأليمةِ، فلْيَتَرَحَّمْ ولْيَتَرَضَّ عن الحسيْنِ ومَنْ ماتَ معه من آلِ بيتِ النبيِّ ومن رفقائِه، ولْيُفَوِّضْ أَمْرَ قاتلِيهِ إلى الجبَّارِ الْمُنْتَقِمِ لِيَقْتَصَّ منهم يومَ الفصلِ، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[الشعراء:88-89]؛ إذ إنَّ النُّوَاحَ والنَّحِيبَ والْعَوِيلَ لا يُقَدِّمُ ولا يُؤَخِّرُ في أَمْرِ قاتلِيهِ وهُمُ الآنَ عند المليكِ المقتدرِ. نسألُ اللهَ جلَّ وعلاَ أن ينتقمَ للمظلومين من الظالمين، وأن يجعلَنا من عباده الشاكرين، وأن يجعلَنا من الْمُعْتَزِّينَ بكيانِهم الإسلامي، المخالفين لليهود والنصارى، الْمُتَّبِعِينَ لهديِ النبيِّ ، وأن يجعلَنا من الرَّاضين بقضائه وقدرِه، وأن يجمعَ شَمْلَ المسلمين، ويُوَحِّدَ صفوفَهم، ويُؤَلِّفَ بين قلوبهم، ويُصْلِحَ ذاتَ بينِهم، ويجعلَهم قوةً واحدةً على أعدائِهم. وصَلِّ اللَّهُمَّ وسَلِّمْ على محمدٍ وآلِهِ وصحبِه ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ. سبحانك اللهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُك وأتوبُ إليك. وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.